فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (14):

{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}
قوله عز وجل: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا} الآية، نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح، وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا يقولون: آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا، فأنزل الله عز وجل: {قالت الأعراب آمنا} صدقنا.
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَان فِي قُلُوبِكُمْ} فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن غُرَيْرٍ الزهري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إليّ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا، قال: أو مسلمًا، قال: فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا؟ قال: أو مسلمًا، قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكَبّ في النار على وجهه».
فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة، يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأصاف إذا دخل في الصيف، وأربع إذا دخل في الربيع، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان، والأبدان والجنان، كقوله عز وجل لإبراهيم عليه السلام: {أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة- 131]، ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب، وذلك قوله: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَان فِي قُلُوبِكُمْ}.
{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ظاهرًا وباطنًا سرًا وعلانية. قال ابن عباس تخلصوا الإيمان، {لا يَلِتْكُمْ} قرأ أبو عمرو {يالتكم} بالألف لقوله تعالى: {وما ألتناهم} [الطور- 21] والآخرون بغير ألف، وهما لغتان، معناهما: لا ينقصكم، يقال: ألت يَألِت ألتًا ولات يليت ليتًا إذا نقص، {مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

.تفسير الآيات (15- 18):

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
ثم بين حقيقة الإيمان، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لم يشكوا في دينهم، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُم الصَّادِقُونَ} في إيمانهم.
فلما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون، وعرف الله غير ذلك منهم، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ}، والتعليم هاهنا بمعنى الإعلام، ولذلك قال: {بدينكم} وأدخل الباء فيه، يقول: أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يحتاج إلى إخباركم.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} أي بإسلامكم، {بَلِ اللَّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ} وفي مصحف عبد الله {إذ هداكم للإيمان} {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إنكم مؤمنون.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ ابن كثير {يعملون} بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء.

.سورة ق:

مكية.

.تفسير الآية رقم (1):

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)}.
{ق} قال ابن عباس: هو قسم، وقيل: هو اسم للسورة، وقيل هو اسم من أسماء القرآن.
وقال القرظي: هو مفتاح اسمه القدير، والقادر والقاهر والقريب والقابض.
وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، منه خضرة السماء والسماء مقبية عليه، وعليه كتفاها، ويقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة.
وقيل: معناه قضي الأمر، أو قضي ما هو كائن، كما قالوا في حم.
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الشريف الكريم على الله، الكثير الخير.
واختلفوا في جواب القسم، فقال أهل الكوفة: جوابه: {بل عجبوا}، وقيل: جوابه محذوف، مجازه: والقرآن المجيد لتبعثن. وقيل: جوابه قوله: {ما يلفظ من قول}. وقيل: {قد علمنا} وجوابات القسم سبعة: {إنَّ} الشديدة كقوله: {إنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر- 14]، و{ما} النفي كقوله: {والضحى ما وَدَّعَك ربك} [الضحى- 1- 3]، واللام المفتوحة كقوله: {فوربك لَنسألنهم أجمعين} [الحجر- 92] و{إنْ} الخفيفة كقوله تعالى: {إن كنَّا لفي ضلال مبين} [الشعراء- 38] و{لا} كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل- 38]، و{قد} كقوله تعالى: {والشمس وضحاها... قد أفلح من زكاها} [الشمس- 1- 9].

.تفسير الآيات (2- 5):

{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)}
و{بل} كقوله: {والقرآن المجيد بل عجبوا}.
{أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} مخوّف، {مِنْهُمْ} يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غريب.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} نبعث، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه، {ذَلِكَ رَجْعٌ} أي رد إلى الحياة {بَعِيدٌ} وغير كائن، أي: يبعد أن نبعث بعد الموت.
قال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ} أي تأكل من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمه شيء. قال السدي: هو الموت، يقول: قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى، {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس ويتغير وهو اللوح المحفوظ، وقيل: حفيظ أي: حافظ لعدتهم وأسمائهم.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} بالقرآن، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} مختلط، قال سعيد بن جبير ومجاهد: ملتبس. قال قتادة في هذه الآية: مَنْ تَرَكَ الحقَّ مرج عليه أمره والتبسَ عليه دينُهُ. وقال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرُهُم. وذكر الزجَّاج معنى اختلاط أمرهم، فقال: هو أنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم، مرة شاعر، ومرة ساحر، ومرة مُعَلَّم، ويقولون للقرآن مرة سحر، ومرة رَجَز، ومرة مفترى، فكان أمرهم مختلطًا ملتبسًا عليهم.

.تفسير الآيات (6- 11):

{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}
ثم دلهم على قدرته، فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} بغير عمد، {وَزَيَّنَّاهَا} بالكواكب، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} شقوق وفتوق وصدوع، واحدها فرج.
{وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا} بسطناها على وجه الماء، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالا ثوابت، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} حسن كريم يُبهَجُ به، أي: يسر.
{تَبْصِرَةً} أي جعلنا ذلك تبصرة {وَذِكْرَى} أي تبصيرًا وتذكيرًا، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي: ليبصر به ويتذكر به.
{وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} كثير الخير وفيه حياة كل شيء، وهو المطر، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد، فأضاف الحب إلى الحصيد، وهما واحد لاختلاف اللفظين، كما يقال: مسجد الجامع وربيع الأول. وقيل: {وحب الحصيد} أي: وحب النبت الحصيد.
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} قال مجاهد وعكرمة وقتادة: طوالا يقال: بسقت النخلة بُسوقًا إذا طالت. وقال سعيد بن جبير: مستويات. {لَهَا طَلْعٌ} ثمر وحمل، سمي بذلك لأنه يطلع، والطلع أول ما يظهر قبل أن ينشق {نَضِيدٌ} متراكب متراكم منضود بعضه على بعض في أكمامه، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.
{رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أي جعلناها رزقًا للعباد، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بالمطر، {بَلْدَةً مَيْتًا} أنبتنا فيها الكلأ {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} من القبور.

.تفسير الآيات (12- 17):

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)}
قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وهو تبع الحميري، واسمه أسعد أبو كرب، قال قتادة: ذم الله تعالى قوم تبع ولم يذمه، ذكرنا قصته في سورة الدخان.
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي: كل من هؤلاء المذكورين كذب الرسل، {فَحَقَّ وَعِيدِ} وجب لهم عذابي. ثم أنزل جوابًا لقولهم {ذلك رجع بعيد}: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ} يعني: أعجزنا حين خلقناهم أولا فنعيا بالإعادة. وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث، ويقال لكل من عجز عن شيء: عيي به. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} أي: في شك، {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو البعث.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} يحدث به قلبه ولا يخفى علينا سرائره وضمائره، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أعلم به، {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضًا، ولا يحجب علم الله شيء، و{حبل الوريد}: عرق العنق، وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين، يتفرق في البدن، والحبل هو الوريد، فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} أي: يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} أي أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. {قَعِيدٌ} أي: قاعد، ولم يقل: قعيدان، لأنه أراد: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، هذا قول أهل البصرة. وقال أهل الكوفة: أراد: قعودًا، كالرسول فجعل للاثنين والجمع، كما قال الله تعالى في الاثنين: {فقولا إنَّا رسول ربِّ العالمين} [الشعراء- 16]، وقيل: أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح، لا القاعد الذي هو ضد القائم. وقال مجاهد: القعيد الرصيد.

.تفسير الآيات (18- 19):

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)}
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} ما يتكلم من كلام فيلفظه أي: يرميه من فيه، {إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} حافظ، {عَتِيدٌ} حاضر أينما كان. قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه وعند جماعه.
وقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه.
وقال الضحاك: مجلسهما تحت الضرس على الحنك، ومثله عن الحسن، وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا الفضل بن العباس بن مهران، حدثنا طالوت، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرًا؛ وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، {بِالْحَقِّ} أي بحقيقة الموت، وقيل: بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان. وقيل: بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة. ويقال لمن جاءته سكرة الموت: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تميل، قال الحسن: تهرب وقال ابن عباس: تكره، وأصل الحيد الميل، يقال: حدتُ عن الشيء أحِيدُ حَيْدًا ومَحِيْدًا: إذا ملتُ عنه.